جريدة إلكترونية مغربية

المفكر عبد الصمد الكباص: أنا ابن الورق و السهر و القهوة و الموسيقى

 

1ـ عن البداية..
البداية دائما كانت ملتبسة، هكذا هي في كل شيء. منذ أن اكتشفت عوالم جورجي زيدان وأنا في مرحلة الإعدادي، اجتاحني هاجس مثير يخص بنيات الحروف و الكلمات و الورق. كنت أحس دائما أن في الجمل ما هو أقوى مما تقوله، و أن ما يكتب على الورق مختلف جدريا في قدراته عما نتفوه به، مع انتصار داخلي للكتابة عن الكلام.
عندما نضجت قليلا عرفت أن في الأمر مقاومة لمفعول الزمن أي قدرة على التفوق على منطق التناهي. الكلام كان يبدو نوعا من الإهدار و الإنفاق بلا تعويض، أما الكتابة فكانت نوعا من الادخار الذي يفلت من القوة القاهرة للزمن. كان هذا وهم مغذي لمغامرتي التي بدأت فيها كاتبا للشعر. نشرت منه الكثير ( فيما بعد طبعا) في جريدة بيان اليوم و بيان اليوم الثقافي و منابر أخرى خارج  المغرب. اخترت لشكلها اسم ” كتابات كاووسية” التي واصلت كتابتها فيما بعد و نشرت بعضها بعد ما أسسنا ” كراريس تيزي للتداول الشعري” مع الشاعرين نور الدين بنخديجة و المهدي العلوي المقيم حاليا في ألمانيا و الفنان التشكيلي لحسن الفرساوي.
في السلك الثاني اكتشفت عالم توفيق الحكيم و جوزيف كسيل و ألان فورنييه من خلال روايته ” مولن الكبير” التي أثرت في كثيرا. لكن اكتشافي للفلسفة لم يكن من خلال حصة الفلسفة و إنمافي حصة الاجتماعيات التي كانت من أمتع الحصص بالنسبة للمراهق الذي كنته.  الأساتذة الكبار هم الملهمون بالنسبة لتلاميذهم. هذا هو حال استاذنا في السنة الخامسة( الأولى ثانوي) في مدرسة سحنون بمراكش. تغير كل شيء بالنسبة لي عندما طرح علينا سؤالا غريبا ” هل سمعتم برواية لعبة النسيان؟ إنها آخر رواية مغربية صدرت. هل سمعتم من قبل بعبد الله العروي و محمد عابد الجابري؟ كيف يمكن أن تكونوا مغاربة و لا تعرفون كيف يفكر المفكرون المغاربة و لا كيف يتخيل مبدعو مجتمعكم؟” دمر هذا السؤال الذي طرح في بداية سنة 1987 جزءا مني و جعل حياتي بكاملها أمامي مقتفيا أثرها. أسابيع قليلة بعد ذلك كنت مارا من سوق الجلد في عمق مراكش العتيقة فإذا بي أرى وسط القطع القديمة المعروضة ملاعق و سكاكين،  دبابس و إطارت صور لجمال عبد الناصر و محمد الخامس و أم كلثوم و أشياء أخرى، و بين كل ذلك كتاب رثت أوراقه يحمل عنوان ” أزمة المثقفين العرب تقليدانية أم تاريخية؟ ” لعبد الله العروي. تلقفت الكتاب بسرعة و دفعت أربعة دراهم التي طلبها مني البائع. و هرولت مسرعا إلى بيتنا برياض لعروس و قلبي يخفق فرحا كما لو عثرت على كنز ثمين. بعدها وجدت كتاب” رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا المعاصرة” لمحمد عابد الجابري بسوق الكتب بباب دكالة.  عكفت على قراءة الكتابين. في صيف نفس السنة كانت النتيجة مكتملة في ذهني: مثل هذه الكتب جد مغري و القضايا التي تعرضها جديرة بالاهتمام، و أكثر من ذلك أنا أيضا يمكن أن يكون لي فيها رأي. كان ذلك مضحكا و لكنه بنفس الدرجة كان منتجا، و هذا يكفي لكي أحس بامتنان دائم للصدفة التي لاقتني بأستاذي في مادة الاجتماعيات الذي فتح عيني على عالم كبير مازلت أحاول إلى اليوم أن أتفحص بعض جزئياته.
مرت سنة، نجحت في امتحان السنة السادسة ثانوي، و في عطلة الصيف اشتريت دفترا من من فئة 200 صفحة و شرعت في كتابة أفكاري حول أزمة الاجتهاد متأثرا بما قرأته عند الجابري و العروي حينها، كانت أفكارا بدائية جلعتني بعد سنوات من الاعتزاز أقبر دفتري الذي ملأته بستة فصول حول المشكل الذي شغلني وهو مفارقة الجوهر و المظهر في المجتمع العربي، متقمصا بعض استعمالات الجابري من مثل “ثوابت العقل العربي”. خلصت حينها إلى أن الإنسان العربي تغيرت مظاهره لكن جوهره ظل راكدا. البدوي يتسيد عقولنا.
كانت تلك بداية مضحكة مع مغامرة التفكير. لكن فيها نتيجة إيجابية جد مهمة، اكتشفت معها أن الفكر يحتاج إلى جرعات متساوية من التواضع و النرجسية. التواضع الذي يعلمنا أننا مهما بذلنا من مجهود لتجاوز تناهينا الفكري فنحن نظل تلاميذ في مدرسة العقل الكوني، و النرجسية التي تفرض في مغامرة التفكير جرأة قول “أنا”.
تراكمت القراءات في مختلف التجارب الفلسفية بعد ذلك، فتحول اهتمامي إلى القضايا الكونية، فكان أول نص أنشره بعنوان ” كلام في العلامة و الفراغ و الصمت”. كان ذلك في جريدة بيان اليوم. و بعدها وسعت مجال النشر في مجلات عربية و دخلت مغامرة التأليف.
2ـ عن الكتب
كل ما كتبت كان تحت تأثير العزلة و الموسيقى. أنهيت أول كتاب لي عندما أتممت 22 سنة. عنوانه كان ” هوامش فلسفة بدون مركز”. كان تجربة طريفة ممتزجة بقصة حب و جولات مثيرة في عرصة مولاي عبد السلام تقاسمت فيها مع الشابة التي أحببت الكتب و القبل ووجبات البوكاديوس. دخلنا معا في تجربة كتابة قصائد مشتركة و نشرناها موقعة باسمينا. عندما نلتقي صباحا، يكون أول سؤال تطرحه علي هل كتبت شيئا أمس؟ أين وصلت في كتابك؟ كل شيء في هذا الكتاب يحمل أثرها. بعد ذلك بسنوات نشر لي محمد عابد الجابري فصولا منه في مجلة فكر و نقد. كانت تلك أول مرة أتلقى مكافأة مالية  عما أكتبه. مازلت أحتفظ بشيك موقع بيد المرحوم الجابري.
” هوامش فلسفة بدون مركز” كان أول كتاب لي لكنه في ترتيب النشر الثالث، و لم يجد طريقه إلى المكتبات إلا بعد 14 سنة من تأليفه. صدر بعنوان ” المجرى الأنطولوجي”. لم أغير فيه حرفا واحدا عدا  العنوان و لائحة المراجع التي أضفتها في الصفحة الأخيرة باقتراح من الصديق المفكر عزيز بومسهولي. لذلك أيضا قصة طريفة. عندما شرعت في نشر نصوصي الفلسفية كنت دائما أواجه بهذا السؤال” لكن أين المراجع؟” كنت أضحك و أقول ” أنا المرجع”. لكن هذه الملاحظة كانت مزعجة تشير إلى خلل في استيعاب الفرق بين التفلسف و الدراسات الفلسفية. كان الأمر أشبه بالمطالبة السخيفة لشاعر بأن يذيل قصيدته بلائحة من المراجع التي استمد منها عوالم خياله. الشاعر يكتب بجسده و دمه و موته الخاص. كذلك كنت دائما أفكر من خلال جسدي و تجربتي الصغيرة في الوجود و حواري مع المكتبة الكونية، و لم أكن أبدا أنجز دراسات في تاريخ الأفكار.
كان لقائي بعزيز بومسهولي جد مثمر، حوار دائم ومشاريع في النشر. في سنة 2002 نشرنا كتاب ” الزمان و الفكر” عن دارالثقافة بالدار البيضاء. كان أول كتاب ننشره في إطار مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب و يحمل علامته. كانت بدايته مساهمة مشتركة في مؤتمر دولي حول التحولات المعاصرة بكلية الحقوق بمراكش. و كان السؤال الذي هيمن علينا هو ما الذي تبقى للإنسان بعد الاستحواذ التكنولوجي على الزمن؟ في حفل العشاء الذي أقامه المنظمون اتفقنا على تطويره إلى كتاب.
في 2001 التقيت عزيز بومسهولي بجليز و تناولنا العشاء معا بأحد المطاعم الصغيرة. كانت ولايتنا على ٍرأس فرع مراكش لاتحاد كتاب المغرب قد شارفت على نهايتها، و خلال حوارنا حول التجربة حصلت لنا قناعة مشتركة بأننا لا يمكن أن نضيف إليها شيئا جديدا، لذلك سنعقد الجمع العام و ننسحب من المسؤولية لنتفرغ أكثر لمشروعنا الأهم. حينها ظهرت فكرة تأسيس نواة لتنظيم عملنا الفكري، فاتفقنا على تأسيس مركز للأبحاث الفلسفية، و اقترحنا أن ينضم إلينا الصديق المفكر حسن أوزال. نظمنا في إطاره سلسلة حلقات فكرية داخلية حول سؤال الحقيقة صدرت أعمالها في كتاب ” أفول الحقيقة، الإنسان ينقض نفسه” و توالت الإصدارت.
حسن أوزال صديق الحياة، كان دائما مفكرا مفاجئا، يقفز بأفكاره في الهواء الطلق غير مكترث بأحقاد الشجر و الظلال، كانت صداقتنا به، أنا وعزيز بومسهولي، حفلة كبيرة من المجد و المتعة و الفرح. سافرنا معا كثيرا، و تقاسمنا ذات المنصة في المؤتمرات و الندوات، و تسلحنا في وجه الضجر بالسهر الطويل..
3ـ عن الفلسفة و الحياة
لم آت إلى الفلسفة من شعبة الفلسفة بالجامعة، لم أتلقها درسا في المدرج ، و إنما سؤالي الذاتي الخاص جدا هو الذي قادني إليها. أنا ابن المكتبة الكونية، ابن الكتاب و الورق و السهر و العزلة و القهوة و الموسيقى. فكرت في اقتداراتي الخاصة، فكرت فيما يستطيعه جسدي. لم أنشغل قط بتوضيح أفكار أحد أو شرحها، هذه مهمة أناس آخرين. من كثرة ما قرأت من اعمال عربية لاحظت أن المنشغلين بقضايا الفلسفة مسكونون برغبة دفينة تسيطر عليهم في ألا يكونوا فلاسفة. إنهم يكتفون بتوضيح أفكار فلاسفة  آخرين و يملأون كتبهم بالاستطرادات و الاقتباسات دون أن تكون لهم جرأة ابتكار مفهوم أو الدفاع عن فكرة تخصهم. إنه أحد أعراض نقص حاد في منسوب القلق وطراوة الروح التي لا تغتني إلا بابداع مفاهيم و تأزيم أخرى. عقيدتي كانت دائما أن الاختباء في الجموع من خلال التخفي تحت قناع ” النحن” مرض خبيث، و أن الوقت قد حان  لرد الاعتبار فكريا للأنا للتفرد و جرأة التموقع.   لذلك كان أغلب ما كتبته اقتراحا لسؤال أساسي هو من أكون حينما أتصرف كجسد؟ و هو السؤال الذي أبعدني عن أكون مجرد وسيط، أقرّب أفكار هذا الفيلسوف  أو ذاك إلى القارئ العربي، بل كنت مستسلما لما يقودني إليه قلقي الخاص المنبثق من الحياة التي تتنفس من خلالي و الجسد الذي لن أكون من دونه. و في ذلك اختبرت فعليا أن الحياة و الفلسفة وجهان لذات الشيء، و أن مفهومي الجسد و الحياة مفهومان متنافسان، و أنه من خلال منطق الرغبة يكون الأعظم و الأكثر مردودية هو التمسك بالوسيلة (أي وسيلة الإشباع) أما الغاية فتجعل الجسد  مجرد تدوير لخيبة اللانهائي. بعد المجرى الأنطولوجي أصدرت ” الحق في الجسد” ثم ” الرغبة و المتعة” ثم ” الجسد و الكونية، مبادئ ثورة قادمة” ثم ” الجسد و أنثروبولوجيا الإفراط” و بينها أصدرت كتابا نقديا لممارسات الحقيقة في الصحافة بعنوان ” الحدث و الحقيقة” و سيرة غيرية للفنان عبد الجبار بلوزير بعنوان” حياة في ثلاث طلقات ونكتة و حلم كبير”، و كتب أخرى مشتركة.
قبل ثلاث سنوات دعتني إحدى المنظمات للمشاركة في ندوة حول ” تدريس الفلسفة” اعتذرت عن تلبية الدعوة مبررا ذلك بأن قضيتي هي الفلسفة و ليس تدريس الفلسفة. بل أنا مقتنع أن كل التشوهات التي تطال سمعة الفلسفة متأتية من الدرس المخصص لها داخل حجرات المدارس و أسوار الجامعات، التي تحولها إلى منتوج نمطي مفصول عن الحياة. و كما قلت سابقا لم يدرسني أحد الفلسفة، بل قلقي الخاص و إمكانات جسدي التي تصطدم دائما بحدوده هي التي قادتني إلى الفلسفة من مدخل التفلسف. لم أسمح قط لأحد أن يفرض علي طريقة فهمي لهذا الفيلسوف أو ذاك، لم أومن قط بمهنة وسطاء الفكر. لذلك أخذت على عاتقي التتلمذ على يد الفلاسفة أنفسهم مباشرة من خلال أعمالهم. فسؤال الفلسفة هو قضية إبداعية الحياة و تأجيج سوء الفهم لتخليص العقول الحرة من أي وصاية.
4ـ عن الطموح
ليس هناك من طموح يحركني. فقط هناك قوى الحياة و الجسد التي تفرض من خلال سيولات الفكر أشكلة ما أنا عليه. لا تراهن أفكاري على شيء و ليس للمجهود المتواضع الذي أبذله أي مقابل في المستقبل، لأن الأفكار في ماهيتها عطاء المستقبل. و الحياة تكفي نفسها بنفسها، إذ يكفي أن أكون حيا فهذا إنجاز يفوق توقعي. علمتني الفلسفة أن الغايات الكبرى مدمرة، و الخير الصغير الذي نستطيع إفرازه بالموازنة بين شرين، أكثر مردودية من أي تعلق بالفكرة الكبيرة للخير.
في تجربة الكتابة، و الشعراء و صانعو السرد يعرفون هذا جيدا، تكون كل جملة نحصل عليها إنجازا كبيرا و انتصارا على التردد بين العدم و الوجود. و النص الذي نكون قد بدأناه دون أن نتمكن من إنهائه يتحول إلى محنة، إذ يظل نداء مدويا لا يكف عن الصراخ في آذاننا ليل نهار، إلى أن ننهيه. إننا احتمالات حدوث تسمح قوى معينة بتنسيقها لتمنحها قدرة على التحقق. و كل جمالية و كل امتلاء روحي يأتي من استعمال الجسد و الأسلوب الذي نبتكره في سبيل ذلك.
5ـ الإكراهات و المشاريع
لا أكتب باسم جماعة و لا أفكر بمنطق انتماء مغلق.و ليس لي التزام مع أحد و لا دين أسدده لأي كان. و في مقدمة ” المجرى الأنطولوجي” أول عمل أكتبه صرحت بدون تردد ”
إن الأمر يتعلق بحق القول خارج تقاليد القول
.” أومن دائما أن الإكراه الوحيد الذي يعمل لحسابه أي مفكر و كاتب هو اللغة. إننا نخوض معركة ضارية داخلها مسلحين بالحق في الخسارة. الجبان اتجاه اللغة لا يمكن أن يكون أي شيء، و من يقدسها أيضا يساهم في تسريع موتها. الشعراء ينقذون مصير اللغة لأنهم يعرفون أنها جبهة حقيقية للموت والخلاص، متحملين مسؤولية خوض هذه الحرب من دون أسى أو تذمر. و عندما نفكر فنحن نمعن في إحداث التشوهات اللازمة  و المنتجة في لغتنا للذهاب بها إلى ملاقاة الكوني، الآخر الكبير الذي يسكن على ضفافها. يعني ذلك أن اللغة إكراه ممتع لمن يفكر. أنا لست من أنصار النقطة الصفر. تجربة المفهوم تبطل ذلك، لأنه يتحول إلى النقطة التي يشرع فيها العالم في الظهور. و في متعة التفكير ندبر أبدتينا الخاطفة التي لا تقاس بالزمن.
غنيّ أنا بما لا أملك. لم أبحث قط عن قارئ، و لا يهمني إن كانت كتبي تجد من يضيع وقته في تصفحها. بل إني أكتب مستفيدا من امتياز أن محيطي القريب لا يقرأني قط. ورغم أن ما أكتبه يجد طريقه إلى النشر بيسر نسبي، إلا أن قرائي هم في الغالب في الخليج، يتأكد لي ذلك من خلال الرسائل التي تصلني. لم أتوصل بتعليق على واحد من  كتبي من مغربي  قط،و هذا امتياز إضافي. بعض قرائي من الخليج زاروني بمراكش، كحالة تلك المخرجة الإماراتية التي جاءت إلى مراكش لملاقاتي بعدما قرأت كتاب ” الرغبة و المتعة”. قالت و نحن نشرب القهوة رفقة عزيز بزمسهولي و حسن أوزال في فندق أطلس مراكش” جئت لأرى من هذا الذي يكتب عن الجسد بهذه الطريقة”. قبل أسابيع قليلة لفت الصديق المفكر انتباهي إلى تدوينة على الفايسبوك لكاتبة شابة كويتية تقول :” هذا الكتاب أربك حياتي” مع صورة لغلاف كتابي”الرغبة و المتعة”.  أعتقد أنه لا ينبغي للمفكر أو الكاتب أن يكون على مودة كبيرة مع محيطه، عليه أن يكون غريبا يجمعه سوء فهم دائم مع مجتمعه. التوافق شيء مدمر بالنسبة له، مثلما أن التوفر على جمهور يصفق له علامة سيئة وقاتلة.
6 ـ عن الإبداع
يتعلق الإبداع بإنتاجية الروح. عندما نتوقف عن الإبداع تتوقف هذه الإنتاجية. الإبداع هو سؤال الرغبة، أي ما يرغبه الوجود فينا و ما يجعلنا نتأهب له. فعندما تطول المسافة بين رغبة ورغبة يعم الضجر و السأم وتكف الحياة عن أن تكون مبررة أمامنا. من حسن حظنا أن هناك مبدعين يعكفون على تهيئ مساحة لانبثاق الحدث و تأجيج مفاجأة الهروب مقنعين إيانا أن الجديد يمكن أن يحدث، و أن الجميل قريب منا، ليفعموا تجربتنا الخاصة في الوجود بجرعات الحماس و الرغبة. و إلا لكانت الحياة التي تتجدد تحت صورة خاطفة لشاعر أو فكرة فيلسوف أو لحن مسكر لموسيقي، ورقة ذابلة مهيأة للسقوط من غصن شجرة حزينة. الإبداع عزف دائم يُعدّ الوجود للرقص فرحا بنشوة الحياة. يعني ذلك شيئا أساسيا هو أن الإبداع لا يهم فقط الكتب التي نؤلف أو اللوحات التي نرسم و إنما الحياة التي نعيش، فهي التحفة الحقيقية الجديرة بكامل الاعتناء، إذ علينا أن نكون مبدعين في حياتنا الخاصة أو نعاملها كشيء نادر و استثنائي. مكنتني خبرتي الصغيرة من أن أحدد مدخل ذلك” أن أثمن عزلتي و أحميها”. عرفت أن كل انشغال بتغيير الآخرين مجرد وهم ينتهي بإفلاس مرير، لكن الاشتغال على ذواتنا يمكن أن يعود بالفائدة على الغير قبل الذات. لم أتطلع قط لشيء و إنما قبلت و استقبلت. عرفت أن العظيم هو العابر و المؤقت، و أن الدائم مجرد هاجس مغرور للوجود. و مثلما علمني تفلسفي أن المرض ليس مجرد خلل و إنما معرفة عميقة بالجسد و بإمكانياته التي نسيناها، علمني أيضا أن علينا أن نُدَوْزِنَ حياتنا كآلة موسيقية لكي نضمن جمال عزفها، و تلك قمة الإبداع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.