جريدة إلكترونية مغربية

محمد الشرقاوي يكتب: ماذا يتبقّى من الواقعية بعد رحيل الخوري وشكري وزفزاف؟

د.محمد الشرقاوي

قرأتُ لثلاثَتِهم بشكل متفرّق، والتقيتُهم في أوقات متباعدة وأمكنة متقاربة. زرتُ محمد زفزاف في منزله بين الدار البيضاء حيث اقتربت أكثر من مزاجه وطقوسه في الكتابة. وجالستُ محمد شكري في أصيلة فكان أقلّ انفتاحا على تلقائية الحديث والكشف عن دواعيه للكتابة. والتقيتُ ادريس الخوري في جلسة مع بعض الأصدقاء، وإن كنتُ أرمق ظلّه في أكثر من مكان وسط المدينة أيام دراستي هناك. كانت الجلسةُ منفتحة على أكثر من موضوع، وأكثر ممّن يودّون أن يضغطوا على أزرار بَّادريس من قبيل المزح، لينطلق في قذف الكلام السليط وتوجيه العبارات الهجومية إلى الشخص الماثل أمامه وأفكاره، فيلعنَهُ بالطول والعرض، ويستخفّ بالملامح التي يحمل على وجهه، وحتى ثقب الكوكب الذي سقط منه. ربما كنت محظوظا هذه المرة عندما بدا بَّادريس شخصا آخر بهدوئه ولغته المرحة ومتابعته للاعلام الدولي. أبدى اهتماما غير متوقع بتجربتي في لندن وواشنطن، وأنه يتابعني لسنوات عبر بي بي سي وصوت أمريكا، وأضاف عبارة تقدير حول تعاملي مع اللغة العربية ووفائي لها.

هم ثلاثةٌ رحلوا في صمت بعدما نحتوا من ذواتهم أدب الواقعية بلمسات مغربية قحّة في مجال الرواية والقصة، وجسّدت أعمالهم إبداعا تلقائيا يتجرّد من التكلّف أو درء العفة أو التجاهل في سرد ما لا نريد أن نركز عليه من تجليات الحرمان والمعاناة في المجتمع السفلي أو مغرب الباطن. فغدا زفزاف وشكري والخوري “صعاليك” هذا العصر، أو كُتّاب “الهامش” أو “كتاب غير مرغوب فيهم” في نظر البعض. هم صوّروا المغرب العميق، فاستحقوا أن يُعدُّوا كتّاب الحميمية المجتمعية بلغة الأعماق وما يختلج صدور البسطاء.

يقول الخوري: “أنا رجلٌ أحبّ الحياة وأكره الانعزالية. أحبّ الفضاءات المفتوحة كالمقاهي والحانات، فهي عبارة عن مجتمعات مصغرة تلتقط فيها تناقضات الناس وأقنعتهم، أفراحهم وأحزانهم. لذلك فضّلت الكتابة عن الهامش مكسرا التابوهات التي تخنق مجتمعاتنا العربية، فيصير كتابها انعزاليين”. وعند التفضيل بين كتاباته المنشورة يقول إنه “يصعب على الأب أن يفرّق بين أبنائه، كما تعلم. ومع ذلك إذا أردت أن أفضّل بعضا من أبنائي فسأختار مجموعتي “الأيام والليالي” و”مدينة التراب”.”
كان بَّادريس وهو لقب يختزل الكثير عن شخصية جسدت مزيجا غير معلن لمن لا يعرف تجربته ومفهومه للمجتمع والكتابة والإبداع. واختلطت في كتاباته وأقواله ثلاثية قلما تلاقت عند كتاب آخرين: ١. نزعةُ التمرّد على القوالب المجتمعية والنواهي والمحظورات في ثقافة المحافظة، ٢. بوهيميةٌ تلقائيةٌ تكسر بريق الافتعال والتصنع، وتتمسك بما هو طبيعي دون مساحيق أو فوتوشوب، ٣. وانغماسٌ حميميٌ في حياة فئات مختلفة من المغاربة بين أهل فكر، ودعاة زهو، وحملة هموم وأحلام صامتة في صدورهم. فكان أمينًا في نقل مشاهد عميقة الدلالة ومن خلالها ما يعّر عن محن البسطاء إلى أسطر القصص القصيرة التي تجسد النبض الواقعي داخل الجسد المغربي، ومن أشهرها المجموعات القصصية: “حزن في الرأس والقلب”، و”ظـلال”، و”البدايات”، و”الأيام والليالي”، و”مدينة التراب”، و”يوسف في بطن أمه”.

قال ادريس الخوري ذات مرة: “ليست لديّ أسرارٌ لأنني لست دولة، قصصي هي أسراري… ما يخيفني هو أن أنقرض .هناك من يكرهني لأنّني صريح معه.” ولا عجب أن تكون الصراحة وجرأة الاختلاف عملة غير مستحبة في زمن باهت الألوان ملتوي الحسابات. وأسوأ الناس حظا هم الصادقون في مجتمعات كاذبة على نفسها!

كتب في نعي نفسه قبل بضع سنوات قائلا “ها قد بلغتُ من الكبر عتيا، فماذا تبقّى لك من الوقت لكي تختفي عن الأنظار نهائيا؟ (هذا ما يتمناه بعضهم) تلتفت يمينا وشمالا فلا ترى أحدا بجانبك، الكل منشغل بذاته وبأسرته الصغيرة وأنت قابع في محنتك النفسية والجسدية تجتر آلامك في صمت…قبلك أنت رحل أعز أصدقائك عن هذا العالم دون استئذان، فهل ستستأذن أصدقاءك الحاليين قبل رحيلك، من يدري؟ قد يدفع بك مرضك الى الرحيل عاجلا أم آجلا، لكن رغم الإعاقة التاريخية التي ألمت بك، من حيث لا تدري، فقد ظللت لصيقا بالحياة وذهبت معها الى مداها الاقصى، بل بقيت راسخا في الارض مثل جذر شجرة عجوز، والآن فأنت مجرد صدى لوحدتك وأنينك.

الكلّ يفكر فيك، ويسأل عنك، أنت محبوب ومكروه في نفس الوقت، الكل يريد السير على منوالك الحياتي المختلف على منوالهم، فهل أنت نموذج يحتذى به؟ في الحقيقة، أنت مجرد كائن بسيط، في حياتك، لكنك عميق في تجربتك بغض النظر عن أنك مجرد رقم في هذه البطاقة الوطنية التي تضعنا في خانة الدولة… لقد كتبت كثيرا وماذا من بعد؟ هل أضفت شيئا الى هذه اللعنة؟ لعنة الكتابة؟ من أنت حتى اصبحت جزء لا يتجزأ منها؟ لست الا رقما عاديا من أرقام الكتابة في هذا البلد. أنت كاتب مفترض، هذا لاشك فيه، فقلها للذين يبحثون عن “الخلود”، كل واحد منا كاتب مفترض، يقف بين الحقيقة والادعاء، بين الخيال والواقع.”

سؤال مغربي بين الأدب وعلم الاجتماع

إذا اعتمدنا اللغة المعاصرة لدى اليسار في الغرب، يكون هؤلاء الثلاثة الخوري وزفزاف وشكري من كتاب أدب الگيتو Ghetto الذي نشأ بين مجتمعات الشتات في مدن معينة مثل لندن وشيكاغو ونيويورك. ويمكن التأريخ لهذا الصنف الأدبي من أعمال الكاتب البريطاني إسرائيل زانغويل {1864-1926} والذي عارض البحث عن وطن لليهود في فلسطين بعدما كان كاتبا طليعيا في حركة الصهيونية الثقافية خلال القرن التاسع عشر. وكان زانغويل أوّل من أشاع مصطلح “ghetto” في اللغة الإنجليزية بعدما أصدر روايته الشهيرة Children of the Ghetto: A Study of a Peculiar People ” أطفال الگيتو: دراسة شعب غريب” عام 1892. ويصفها باتريك بارندر الأستاذ في جامعة ريدنج بأنها “أوّل رواية كشفت الفوارق العرقية في بريطانيا”.

أستحضرُ عالم الگيتو هنا للإشارة إلى عوالم گيتو مغربية متفرقة عايشها هؤلاء الثلاثة أكثر من غيرهم. فكانوا روّاد الواقعية على مذهب الصعاليك في الكتابة الأدبية، واستقوا منها العزم على تشريح تراتبية المجتمع في أحياء طنجة السفلى لدى محمد شكري خصوصا في “الخبز الحافي”، أو أوضاع سكان الكريان في الدر البيضاء عبر كتابات محمد زفزاف بداية بمجموعاته القصصية “حوار في ليل متأخر” (1970)، وروايته الأولى “المرأة والوردة” (1972)، ونهاية بمجموعة “العربة” و رواية “الثعلب الذي يظهر ويختفي” (1993)، أو ضمن تجليات الثقافة الشعبية وروح المقاهي المكتظّة الصّاخبة، وقصة “خديجة البيضاوية” وبقية الفتيات المنهكات في المصانع في الدار البيضاء في أعمال ادريس الخوري، وهو ينشر لقرابة أربعين عاما: “حزن في الرأس والقلب (1973)، و”ظلال” (1977)، و”البدايات” (1980)، و”الأيام والليالي” (1980)، و”مدينة التراب” (1988)، و”فضاءات، دار الكلام” (1989)، و”يوسف في بطن أمه” (1994)، و”بيت النعاس” (2008)، و”فم مزدوج” (2009). فتأتي أمانة النقل والتصوير صادقة بتفاصيل المحنة والمعاناة لدى فرسان هذه الواقعية المغربية الفجّة بلا مساحيق ولا هروب من الواقع أو جنوح إلى الخيال أو مجاراة خط الرومانسية

يقول الروائي والناقد صدوق نور الدين إن “تجارب زفزاف في القصة والرواية، بُنيت على أساس الوعي بعفوية الكتابة، وتلقائيتها التي تقوم على الانتقاد المباشر للواقع، وللظواهر المجتمعية، بأسلوبٍ غير مباشر، على الرغم مما يجده القارئ فيها من أقنعة أوتو- بيوغرافية، يحيل الإيهام فيها إلى التماهي بشخصية الكاتب.” أما زفزاف نفسه فقال قبل فترة قصيرة من وفاته إنّ “الكتابة أصبحت بالنسبة لي هي وجودي: إذا لم أكتب فكأنّني لم أعد أرغب في العيش. وعندما أقول إذا لم أكتب فإني أقول في الوقت ذاته إذا لم أقرأ يومياً فكأنني لا أعيش. أنا شخصياً مقتنع أنني لم أخلق لأنجب أطفالاً أو لأملك ثروة أو لأتهافت على مناصب دنيوية. فأنا على رغم أنّي أركز على ثيمة الموت في كتبي – وبعض النقاد يعتبرون ذلك نقيصة – … أعتبر أن التركيز على الموت هو تشبث بالحياة وتشبث بقيم الخير في هذه الدنيا الفانية، فالدنيا هي مؤنث للأدنى. والأدنى في اللغة العربية معناه الحقير، الصغير، المنحط… هذه هي الدنيا ووضعنا فيها هو وضع العابر سواء كان الواحد منا حاكماً أو محكوماً، ولذلك أركز على ثيمة الموت. فالموت، حينما نشعر به يجعلنا نحب الحياة ونحب فعل الخير.”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.