الإعلام وخلق القيمة في اقتصاد المعرفة
د. مصطفى غلمان
لا حاجة إلى إعادة التذكير بمطمح سوسيولوجيا الإعلام (العلم الجديد المنبثق عن مجال يحبل بالكثير من الاستيهامات والتأويلات السيميائية والبلاغية بكل شعابها وفواعلها)، في الاقتراب من مجتمع المعرفة، بما هي حقيقة واستشراف، يحتاج الفرد فيها إلى أن يكون فاعلا بمعرفته وأن يكون قادرا على استخدام المعرفة. أو بما يعني، أن المعرفة ليست بالضبط ما يعادل المعلومات، بل تذهب إلى أبعد من ذلك. وهذا يتطلب التكامل والاستخدام من قبل الفرد، ونجاعة في فهم خصوصياتها ومشاغلها العصرية المتحولة.
تتأسس فكرة المعرفة بهذا العقد الثقافي الجديد، على تحويل الإعلام في صراعه الأبدي مع الرسالة التي يحملها، والوظائف المتقاطعة التي يوظفها من أجل استمراره ومسؤوليته، على الاقتراب من تجسيد اقترابات “مجتمع المعرفة” ذاك، وبشكل أساسي في طريقة نقل المعلومات وتداولها واشتراكها مع باقي الاختصاصات الموازية لعالم التكنولوجيا. ويكون من اللازم أن تتأثر فوارق المعلومات، عندما يتم تجميعها، لتصبح المعرفة، بالإبدالات والأنشطة الأخرى، التي تستتبع مجال التوثيق والتدوين والاستقصاء، نسقا في الاستدلال وتعميق الرؤية واسترداد النصوص وما وراءها.
وبما أن وسائل الإعلام تساهم في زيادة كثافة المعلومات (تقنيات المعلومات والاتصالات الجديدة) والإنترنت، فإن معظم أنشطتنا البشرية والاقتصادية تعتمد على نقل المعلومات واكتساب المعرفة. وهو ما يعزز مكانة ضح أنفاس جديدة ومتحركة في علوم الإعلام، بالقراءات التي تمكننا من فهم نوازل العلوم الجديدة التي تسبح في كوكب يتحول في أزمنة مقتربة ودقيقة جدا.
ولهذا يتغلغل سؤال “السوسيولوجيا” في شكله، الذي ينهج إلى أن تكون المعرفة به علما واجدا ومنفردا ومتفردا، وأداة للقوة الصامدة والممتدة، وخاصة، لاختراع أسلحة جديدة سريعة التطور، والتي تنتصب على الحدود القصوى لكل التكنولوجيات الممكنة، التي تفسح المجال للتطور والمعرفة والإبداع.
وهو ما حاولنا، الاقتراب من إوالياته وأنساقه الواسعة والمضطربة، في مقالاتنا السابقة، والتي لا نبتغي من خلالها، تفكيك “سوسيولوجيا الإعلام والرقمنة”، على أساس إعادة قراءة تاريخ وذهنيات وسائل الإعلام، بروابطها المعقدة وغموض بياناتها الضخمة وأوثاق رقمنتها للمعلومات. ليس فقط بسبب إمكانات النمو التي تثيرها هذه الطفرات. ولكن أيضًا بسبب التحولات التي تولدها من حيث الممارسات الصحفية والتكنولوجية للنموذج الاقتصادي في عالم الرقمنة، كسياسة العرض وأنظمة إدارة الحقوق والوصول المستمر والفوري إلى المعلومات، وسياسة الاشتراك وعائدات الإعلانات، وتكاليف إنتاج المعلومات وطريقة الاستخدام والاستهلاك ..إلخ.
إن تسارع انفراط القيمة الأخلاقية والاجتماعية للمعلومات والبيانات، في عالم يضج بمتاهات التجذيف والاختزالية والتواطؤ والانحراف المهني، يشكل لدى الدارسين المهتمين، هاجسا يخفي من ورائه ندوبا عميقة، لم تكن لتوقفها تشابكات سياقات التطور المخيف لوسائل الإعلام، التي انزلقت في غفلة من الزمن، من سياق هش من البيانات إلى سياق مهول بملايين الوثائق والصور والتسجيلات ذات الإمكانات العالية، من خلال وضع جزء كبير من أنشطتها في المجال الرقمي. وكجزء من هذه الحركة، أضحى منطقيا وعلميا ومنهجيا تكييف الهياكل والأنشطة المتسارعة، مع هذه البيئة الجديدة.
صحيح أن هذا التكيف والاندماج ربما، سيأتي على حساب نقلة نوعية عميقة تحدث على مستويات متعددة. من بينها، رقمنة المعلومات التي أحدثت تحولًا جذريًا في القطاع السمعي البصري، والتزاماته في إيجاد أدوار ووظائف ملائمة مع ما أصبح يسمى ب “وسائط إعلام عابرة”، لتكون قادرة على المنافسة والصمود في وجه التيارات المتبدلة.
لكن إشكالية “الوصول إلى مصادر جديدة للبيانات”، أثارت دوما مصدر قلق متواتر، يؤرق فهوما جائلة تتغلف ب” خلق القيمة في اقتصاد المعرفة”، وتوفير الأدوات المخصصة لاستغلالها، كتقنيات البيانات الضخمة، وظهور مهارات وخبرات غير مسبوقة، سواء في مجال الكتابة، كمساهمات الروبوتات، ومستقبلات البيانات الحسابية الهائلة، واستكشاف أنساق فكرية وعلمية.. إلخ، من حيث إنشاء المحتوى مثلا، فيما يخص “السيناريوهات، الصور، المؤثرات الخاصة، مقاطع الفيديو”. وهو ما دفعني، في خضم هذه الاعتبارات إلى محاولة الإجابة، عن أسباب بروز أحمال زائدة للمعلومات، واحتمالات مسخها وتدجينها وتطويرها إلى أخبار مزيفة، وما إلى ذلك.