كُديَة سّي حَمْزَة : وَا خّييّي جَا ! أو الزّينْ الصّافي حَوْز آسَفي !
بقلم حسن الرحيبي
تمتزج أصوَات أبوَاق الحَافلات مع دُخان عوادمها الخانق وضَجيج الكورتية ومُسَاعدي السّائقين أو الكريسُونات وهم يحثّون القادمين على الإسرَاع يغرونهم بالتّظاهر بقرب انطلاق الحَافلة ، والمسَافرين الذين لا بدّ أن يعرّجوا على شراء أقباط النّعناع لمعاشي المتميّز المعروف بمدينة آسفي ورائحته المُنعشَة النفّاذة يبيعها رجل طويل القامة بصَوته الأجشّ : الوَركة الوَركة ! حين كان لا معنى للقدوم للقرى النّائية من مدينة آسفي الجميلة دون جلب ربطات النّعناع الخضراء الطّرية ، التي تعبق بأريجها الزّكي أجواف الحافلات وسقوفها المُهترئة …فضلاً عن السّردين الذي كنت أجلبه من المرسىٰ بالمجّان بسبب وفرته غير المسبوقة ، وكنت أرى من الواجب بل من الضّروري إكرام الخيمة والأسرة بكناشطة أو اثنتين ، رغم ثقلهما وتسَاقط مياههما المالحة الملوّثة بأحشاء السردين وقشوره ، من جوانب وقعر السلّتين القصبيتين ، ورغم تردّد صَاحب الحافلة في حملهما لأن رائحتهما ووسخهما يتجاوز بكثير ثمن الرّكوب الذي كنت أتفاوض بمهارَة وحنكة المتمرّسين بتجارب الأيام القاسية ، من أجل تقليصه لدرهم واحد ونصف لأن للضّرورة أحكاماً ، وحكمَة الغفلة ما بين البائع والشّاري كانت هي العملة السّائدة آنذاك …
رَحم اللّه زماناً جميلاً توفّرت فيه خيرات بمغرب لا مثيل له ، وأغاني أجمل تستحقّها المدينة الأصيلة ونساؤها الجميلات جدّاً حين كان الجَميع يردّد لاَزمة :
الزّين الصّافي
حوْز آسَفي
لقد علّمتنا آسفي تذوّق الفلسفة وجمال الحياة وبهجتها ..كما شكّلت كُديتها الشّهيرة منطلقاً لطريق الحرير والنّعناع والسّردين والهرينكة le hareng ، التي كان يتحرّج البائعون من أخذ ثمنها الزّهيد لوفرتها الشّديدة ، وعدم قدرتها على منافسة السّردين اللّذيذ …
اليَوم أصبحنا نلهَث وراءَها لنحصُل علىٰ شيء قليل منها بثمن مُرتفع مع اسم مختلف مزيد ومنمّق ومنقّح :
الشّرَن ! آلشّرَن !
لاَ زلت أتذكّر قدوم اخّييّي (ابن عمّة أبي) في بداية السّتّينات ، رجل طاعن في السنّ بعينين صَغيرتين زرقاوتين ، وبهيأة نظيفة ووَجه أشقر جميل يحيل على أهل فاس أو الرّباط وقد دخل للخَيمة المُشرعة ، فقط التّرعَة ، بدون أبواب « منّها للخلاَ » ، تتوسطها حزمة سدر يابس جُلبت من بلاد الحَنفوشي البعيدة ، يلجها بتمايل وتثاقل ، تطبعهما صُعوبة الحركة والمشي وبعضَ العرَج والخنَع ، مُستغلّاً انشغال الكلاَب اللّاهثـة مرتقبةً من يرمي لها بعض فُتات الخبز ، فيضَع أبي البرّاد جانباً بسرعة فائقة ، ويقفز ناطّاً فوق رؤوس الجَميع بخفة ورَشاقة نادرة ، ويقجّ الكلب خانقاً إياه بكلتا يديه وبشكل مُحكم وهو يصيح : وا خّيّيي جَا !
كان يزورنا لما يطول به المقام بآسفي ويتذكر جمال البادية التي غادرها سنة 1919 وهو لاَ زال شابّاً يافعاً تتبعه امرأة ، مهتدياً بشاطيء بحر الظلمات حتى بلغ المدينة الجميلة … كان محمّلاً بالنّعناع وشرك السّرديل المقلي ..ظلّ يزورنا بدون سابق إعلام حتى لمّا مات أبي في خريف سنة 1967 ، وفي كلّ الفصُول كلّما ضَاق به الحال يزور دوار الصّديكات ، دوار أمه فاطنة بنت الشّاوي ، ودوار أبيه المناصرَة من اولاَد الشّيكر . كنّا ننام على الحصير في صَفّ واحد رجالاً ونساء وأطفالاً… لاحظت امّي حليمَة تقلّصَ عدد الحرَاشيش المعتادة والتي انتقلت فوق ظهر اخّويّي النّحيف ، حملقت في وجه الرّجل تحت ضَوء شمعة بئيسة تكاد رياح الشّتاء العاصفة تقتلعها من جذورها الدّامعة ، لتتأكّد من نومه ، فتزيح من فوقه جزءً من الأغطية الصّوفية المُتهالكة مُحتجّةً بصَوت يطبعه قليلٌ من الخُفوت والمودّة : مّالُه يتغطّىٰ بهاذ الدّرسَة كاملَة ؟ طايح من فوك جمَل ؟ لم يحتجّ الرّجل المتحضّر كثيراً ، واكتفىٰ بجملة واحدة : آلله يهديكْ آحليمَة !
ثم يغطّ الجَميع في نَوم عَميق رَغم شدّة البَرد والرّياح العَاصفة ومدَاهمات حشرات الفراش المتوَاصلة ، للأجساد النّحيلة الوَاهية ..في انتظار صَباح مُشرق جَديد ووَاعد .. حَافل بالأمَاني الجَميلة ، والأحلاَم الحُلوَة اللّذيذَة ..