احتفاء بمسار الكاتب أنيس الرافعي بالدارالبيضاء : حين تتحوّل القصة القصيرة إلى مختبر للمعنى
في إطار انفتاحها على التجارب السردية المغربية المعاصرة، احتضنت المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء التي يديرها الفنان المبدع و المصمم الخبير سعيد كيحيا لقاءً أدبيًا مميزًا كرّس للاحتفاء بتجربة الكاتب المغربي أنيس الرافعي، وذلك بمبادرة من جمعية “منتدى شهرزاد للتربية والثقافة”، احتفاءً بإصداره الجديد الموسوم بـ “مارستان الأقنعة: إعادة اختراع البهلوان”.


هذا الحدث الثقافي شكل مناسبة لإعادة قراءة مسار أحد أكثر الأصوات الأدبية تفردًا في المشهد القصصي المغربي والعربي، حيث يتميز مشروع الرافعي بجمالية قوامها التجريب والتفكيك، والانفتاح على تخوم الفنون البصرية والفكر النقدي والمقاربات الهامشية. فهو لا يكتب القصص بقدر ما يخترع أشكالًا سردية متحوّلة، تستنطق المجهول وتحتفي باللايقين، عبر كتابة مفككة، مشبعة بالمجاز والرمز والتقعير.







اللقاء، الذي نسقه الناقد الفني الدكتور عبد الله الشيخ، و قديمة بأريحية و انسيابية الطيب العلمي العدلوني ( رئيس جمعية منتدى شهرزاد التربية و الثقافة) عرف مشاركة أسماء وازنة في الحقل النقدي من قبيل الفنان عبد الله بلعباس، الدكتورة إيمان الرازي، الدكتور جمال بندحمان، الدكتور عمر العسري و الدكتور سعيد منتسب، والذين أجمعوا على الطابع الطلائعي والانزياحي في نصوص الرافعي، مشددين على أن هذا الكاتب لا يقدم نصوصًا للقراءة التقليدية، بل مختبرات دلالية تُجبر القارئ على إعادة تركيب المعنى من خلال الشذرات والتلميحات.


وقد تخلل اللقاء تقديم لوحتين تشكيليتين لبورتريه الكاتب، أبدعهما طالبان من المدرسة المنظمة، هما حمزة دنياجي ووليد أولحيان، في لحظة اعتراف فني تمزج بين التكريم والتقدير الإبداعي.

أنيس الرافعي، الذي وُلد عام 1976 بالدار البيضاء، يُعد من أبرز الأصوات القصصية المغربية التي راكمت منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي تجربة خصبة، تتقاطع فيها النزعة الشعرية مع الهواجس الفلسفية، وتؤسس لوعي سردي مختلف، يُراهن على الانقطاع، والكتابة المعلقة، وتفجير التوقعات التقليدية. فالقصة، في مشروعه، لم تعد وسيطًا لنقل الوقائع، بل حقلًا للتوليد الجمالي، وللشغب على اليقين في إطار المقامات الفرجوية على الطريقة البهلوانية.

وكما صرح الناقد عبد الله الشيخ ، فإن كتابة الرافعي “لا تُطمئن القارئ، بل تُقلقه، وتدفعه إلى التيه في متاهات الحكي على الطريقة الشهرزادية، حيث لا نهاية ثابتة، ولا دلالة مغلقة، بل نسيج من الهشاشة والتشظي والاختلاف”. وأكد أن مشروعه يمثل “أدب مقاومة ضد الانغلاق والشكلانية، ينحت فرادته من داخل التوتر، ويقترح الأدب كفعل حر، لا كمجرد سلعة ثقافية”.

في أعماله، يبدو الكاتب كبهلوان لغوي، أو ساحر للمعاني، يمارس التوازن على حبل السرد، من غير أن يسقط في الوضوح المريح. وهكذا تُغدو قصصه بمثابة مختبر مفتوح يعيد تشكيل ملامح القصة المغربية، من داخل جغرافياتها المنسية، وصورها المكبوتة، وسؤالها الدائم عن المعنى.

سيرة أنيس الرافعي في سطور :
كاتب ومبدع مغربي يُعدّ من أبرز الأصوات السردية المعاصرة في المغرب والعالم العربي. كرّس مشروعه الأدبي لخدمة فن القصة القصيرة، حيث يُنظر إليه بوصفه مجدّدًا لهذا الجنس الأدبي من خلال نزوعه التجريبي، وتقاطعاته المتعددة مع الفنون البصرية والمفاهيمية.
تميّزت تجربة الرافعي منذ بداياتها بسعيها الحثيث نحو تجاوز القوالب السردية التقليدية، والانفتاح على أشكال الكتابة التهكّمية والتجريبية. وهو ما تجلّى في مؤلفاته العديدة، التي باتت تُشكّل ما يشبه مختبرًا جماليا لتفكيك حدود النوع الأدبي، من أبرزها: فضائح فوق كل الشبهات، الشركة المغربية لنقل الأموات، الثعلب الذي يتلوى بحذائه، جودة الراوي، ومارستان الأقنعة: إعادة اختراع البهلوان.
يصف أنيس الرافعي نفسه بـ”المهندس السردي”، إذ يؤمن بأن الكتابة القصصية ليست مجرّد حكيٍ للأحداث، بل هي عملية تركيب معقّدة تستدعي التفكير في البنية، الإيقاع، الفجوات، والفراغات. وهو صاحب مفهوم “فن التجهيز القصصي في الفراغ”، حيث تتداخل الكتابة مع مفاهيم العرض الفني، والمجسمات، واللغة المفككة، لتُحدث ارتجاجًا في العلاقة بين القارئ والنص.
ينتمي الرافعي إلى جيل من الكتّاب المغاربة الذين انخرطوا في إعادة تعريف هوية الكتابة السردية من داخلها، دون تقليد أو اتباع. وقد حظيت أعماله باهتمام نقدي واسع في المغرب وخارجه، وتمت ترجمتها إلى لغات عدة، كما شارك في لقاءات وندوات أدبية مرموقة.
لا تكتفي تجربة أنيس الرافعي بالسرد، بل تتغذى من السينما، التشكيل، الكولاج، والميتاسرد، ما يجعلها تجربة مركبة، ذات نفس إبداعي عال، ورؤية جمالية تكتب من الهامش لتزعزع المركز.