جريدة إلكترونية مغربية

المعرض الفني “20 سنة من التعبير الرعوي” للمبدع المصطفى غزلاني مصالحة جديدة بين الفن والطبيعة

بقلم: د. عبد الله الشيخ (ناقد فني)

يعتبر المعرض الفني “20 سنة من التعبير الرعوي” المنظم مؤخرا برواق باب الرواح بالرباط تحت عنوان “اهتزت و ربت” ، تتويجا لمسار فني وفكري متكامل للمبدع المصطفى غزلاني، الذي جعل من الأرض محورا لخطابه التشكيلي، ومن العلاقة بين الإنسان والطبيعة مادة للتأمل الفلسفي والإبداع البصري.

هذا المعرض لا يقدم مجرد أعمال تشكيلية( 32عملا فنيا)، بل يطرح رؤية جمالية وفكرية تنبع من وعي بيئي وإنساني عميق، وتسعى إلى إعادة صياغة مفهوم “الفن الرعوي” بما يتجاوز دلالاته التقليدية نحو أفق كوني يتقاطع فيه المحلي والعالمي.

يؤسس غزلاني في مشروعه لما يسميه “التعبير الرعوي” كفعل جمالي وفلسفي يستمد طاقته من الأصول الطبيعية والرموز الكوسمولوجية الأولى، حيث تصبح الأرض، بمادتها وتكوينها، موضوعا ووسيطا في آن واحد. يستخدم الفنان التراب والحجر والخشب ومشتقاتها ليس كمواد تشكيلية فحسب، بل ككائنات حية تنطق بذاتيتها وتُفصح عن علاقة الإنسان بالوجود. وبذلك، يتحول العمل الفني عنده إلى نوع من “الترجمة الوجودية” لمعادلة الإنسان/ الأرض، أو لما يسميه بعض النقاد “القصيدة الطينية”.

تضم المعروضات لوحات ومنحوتات تعتمد تقنيات مختلطة على القماش والخشب، مثل أعماله ” تعبت الأرض ” ، “صلاة الماء “، و” شفرة المجال” حيث يزاوج بين الملمس الترابي والأبعاد الرمزية التي تستحضر الأسطقسات الأربعة: الماء،و التراب، والنار، والهواء. يقرأ المفكر و الباحث الجمالي إدريس كثير هذا المنحى باعتباره عودة إلى “الأسطقسات الكروماتية” أي إلى أصل اللون والمادة معا، حيث الفن ليس تمثيلا للطبيعة بل استمرار لها، والفنان يشتغل كطبيعة ثانية تخلق العالم من جديد.

تتجلى في أعمال غزلاني نزعة فلسفية وميتافيزيقية قريبة من الفكر الإغريقي القديم، ومن تأملات هايدغر حول “الفيزيس” بوصفها انكشافا للوجود. فالأرض عنده ليست موضوعا خارج الذات، بل ذاكرة كونية ومصدر هوية. إنها كيان متكلم، كما وصفها الناقد الفني عز الدين بوركة، ” يسكننا كما نسكنه”، لتغدو اللوحة صحراء رمزية مفتوحة على أسئلة الخلق الأولى، ومجالا لاستعادة البدايات في مواجهة صخب الحداثة المادية.

من جهة أخرى، يرى الباحث الجمالي حسن لغدش أن تجربة غزلاني تنتمي إلى تيار “الآرتيفيزم”أو الفن البيئي المقاوم، الذي يربط الجمال بالفعل الأخلاقي والوعي البيئي، في مواجهة انحرافات العصر الأنثروبوسيني. فهو فنان يعلن قلقه من استنزاف الأرض، لكنه في الآن ذاته يحتفي بجمالها وقدرتها على التجدد، محولا المادة الطبيعية إلى خطاب بصري نقدي ومتفائل في آن معا.

أما من الناحية التقنية، فإن الفنان يعتمد تدرجات لونية ترابية تمتد من البني الداكن إلى الأوكري الدافئ، مفعمة بإيقاعات الضوء والظل، ما يمنح اللوحات طاقة حيوية تستدعي الحواس الخمس. هذه الحسية، كما يلاحظ الناقد محمد القنديل، ليست زخرفية، بل هي ترجمة حسية لمفهوم “العطاء البصري”، إذ يجعل غزلاني من اللون والرائحة والملمس أدوات للتأمل في “الأرض/الطفولة”، بوصفها المنهل الأول للذاكرة.

ويُعد هذا المعرض، أيضا، خلاصة لمسار يمتد على عقدين من البحث والتجريب. فمنذ تأسيسه لجماعة “أرض” وانشغاله بمسألة الانتماء الترابي، بلور غزلاني رؤية تجمع بين الحس المحلي والتفكير الكوني، وبين الجذور والآفاق. وهو ما تعكسه مسيرته الغنية بالمعارض الوطنية والدولية، وأعماله النحتية الأرضية و الحائطية ، وإرساءاته ، وكتاباته الشعرية والسردية التي تُوازي تجربته التشكيلية.

إن “20 سنة من التعبير الرعوي” ليس احتفاء بالزمن، بل استعادة للجوهر الإنساني في علاقته بالأرض. المعرض يقدم الفن بوصفه طقسا وجوديا وممارسة تطهيرية ضد النسيان، حيث تتحول اللوحة إلى مرآة للطبيعة في لحظة مكاشفة، وإلى جسر بين المادة والروح. بهذا المعنى، تتجاوز تجربة المصطفى غزلاني الإطار الجمالي لتصبح بيانا إنسانيا في زمن يئن فيه الكوكب من أعباء الإنسان ذاته، داعية إلى مصالحة جديدة بين الفن والطبيعة، وبين الإنسان وأصوله الأولى. كتب المصطفى غزلاني : ” تبلور مفهوم “التعبير الرعوي ” على المستوى التنظيري خلال شتاء عام 2007، وكانت قضيتي الابداعية تتمحور حول بعدين اثنين:

– إن الاسهام في الحركة الكونية لا يستقيم بما هو معطى كونيا، بل بما هو فردي وخاص جدا .

– إن ما أنتمي إليه الآن وهنا هو ما يضمن منح الخاص بي كمختلف للاشتراك في حركة العالم.

إن التعبير الرعوي مفهوم لا يقتصر بالمرة على حمولة الفن الرعوي الذي عرف عند الغرب غير أنه يمكن احتواؤه كجزئية ضمن المفهوم الذي نروم. ذلك، لأن التعبير الرعوي ضام لكل ما هو بصري ؛ من صباغة و نحت وتجهيز وفيديو إلى ما هو قول غنائي شعبي ولباس تقليدي ونظم زجلي رعوي…إلخ .ينبه التعبير الرعوي إلى مايلي:

أولا، لأن عنصر البادية ما زال عذريا إما بسبب الإهمال وعدم استيعابه كمولّد للخصوصية الأولى، وإما لعدم قدرة الفنان التشكيلي المغربي على مساءلته كوضع سميولوجي ومقاربته كتراكم انطربولوجي كثيف، وإما أن ذات الفنان هذا ما زالت لم تعرف الامتلاء بما يكفي لتتوقف عن المسايرة والتشبه وتركب رهان الخصوصية المغايرة…

ثانيا، لأن البادية تشكل نصف شخصية الكائن المغربي، على الأقل. وعليه، أعتقد أن الانتباه إلى هذا المكون يصير عملية ملزمة لبناء فن تشكيلي يشبه هذه الذات، ولكي يسمح لنا في الأخير بالقول جدارة: هذا فن تشكيلي مغربي، على غرار التشكيل الأمريكي واليباني..

ثالثا، لأن البادية تستطيع أن تمنحنا، الأدوات، الأسندة، الألوان، الموضوعات والتقنيات… وهذا يشكل الحصانة الإبداعية للانخراط الإيجابي في الحركة الكونية، شريطة أن يكون بحثنا واع، جادا وعميقا. ولأني أنتمي بكل جوارحي للفضاء الريفي، وإذ أعتبر أن مكاني هنا ينبغي له أن يكون مركز الكون- كوني. من هنا، فإن كل اهتمامي منكب على المحيط/ الارض، بأتربتها بألوانها وملامسها ونسيجها، بناسها وآلاتهم وأفعالهم من بناء وهدم وتدمير وصيانة بأفراحهم وأحزانهم.. أي بكل ما يربط الإنسان بالأرض.

هكذا، كان عملي التشكيلي متنوع من الاشتغال في إطار اللوحة بتوظيف ما تمنحني اياه الارض إلى التركيب والنحت بالاعتماد على توظيف متلاشيات وبقايا الأدوات الفلاحية مثل المدراة والمنجل والخربشة / المشط… “( مؤلفه ” التعبير الرعوي، مقرب تشكيلي ” عن مطبعة المتقي ، المحمدية ، عام 2010).

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.