الفنان التشكيلي عبد العزيز الغراز تجريدات لونية ترسم ماضي الحاضر
إبراهيم الحَيْسن
كيف يستعيد الفنان التشكيلي عبد العزيز الغراز جزءاً من ماضيه وذكرياته؟ ولماذا فكر في جعل ماضيه حاضراً في تجربته الصباغية الرَّاهنة التي حَشَدَ فيها العديد من أفكاره وتصوُّراته التي حوَّلها من سياق ذهني محسوس إلى سياق جمالي بصري ملموس؟
الفنان التشكيلي عبد العزيز الغراز
لا شك أنه أراد بهذا الاشتغال التشكيلي الجديد تقديم لوحات صباغية أخرى موسومة بالمزاوجة بين التجريد والتشبيه، حيث نلمس عودته التدريجية للتشخيص الذي يظهر في لوحاته مندمجاً وسط تكوينات تجريدية متنوِّعة يتقلص فيها التكثيف اللوني والمادّوي الذي رافق تجربة الفنان لفترة معيّنة،متجاوزاً بذلك ما أنتجه من لوحات تعجُّ بالحركية اللونية الناتجة عن البصمة والأثر وأمسي ينفذ راهناً لوحات أخرى مغايرة يطلّ من داخلها الجسد بملامح هلامية تجريدية تختفي فيها سمات هويته الفيزيقية بفعل الإمحاء وتمازج الطلاء والمواد التلوينية الخفيفة المستعملة.
الفنان عبد العزيز الغراز بمرسمه
من ثمَّ، أضحت لوحاته الصباغية المقترحة لهذا المعرض، تحمل بصمات الماضي وتستند إلى مرجعية شخصية مفعمة بصور خاصّة من رحم تجارب ذاتية خاضها الفنان في معترك الحياة، وهي لوحات تحيا بداخلها مفردات تجريدية وتشخيصية تتمازج في ما بينها لتظهر في شكل متواليات بصرية يسعى الفنان من خلالها إلى استعادة الماضي كشكل من أشكال “الارتجاع الفني” Flashback بوصفهأسلوباً تعبيريّاً يسمح للفنان بالعودة إلى الماضي ويُتيح للمتلقي فرصة التعرُّف على تفاصيل عن مشاهد سابق كما لو كانتتحدث في الوقت الحاضر.
ولأن الماضي لا يموت ولا يفنى، فهو يحيا ويتجدَّد في الحاضر عبر الوعي بوتيرة الزمن وبالذكريات والأحداث التي لا تنمحي أبداً. من هذا المنطلق فكَّر الفنان الغراز في تشييد أعماله الفنية الجديدة مستعملاً في ذلك أسلوباً تعبيريّاً مُغايراً ومختلفاً يمتد لمهارته وبراعة يديه عبر ملامسة المواد والسندات وتطويعها لفائدة الفكرة والموضوع، وذلك على نحو تعبيري يُبْرِزُ تعلقه بماضيه وبذاكرته،تيمُّناً بقول الروائية الإنجليزية جورج إليوت “لا أريد مستقبلا يفصلني عن الماضي”.
إنه الماضي الحاضرLe passé présent الذي يُراهن عليه الفنان من أجلالاستذكار واسترجاع الذاكرة وتجسيدها على سطح اللوحة بواسطة مواد وخامات وألوان تعيش في كنف الأشكال والنماذج المرسومة التي تكوِّن المشهد العام للعمل الفني. هذه اللغة التشكيلية التي يُعَبِّرُ بواسطتها، نجدها تتمدَّد وتتسع لاختياراته الصباغية التي ترسم لديه بهاء التجريد والتشخيص معاً..
إنها سرمدية لونية ومادوية معبَّر عنها ضمن توليفات صباغية متجانسة ناتجة، في وحشيتها وفطريتها، عن الانخراط الإبداعي الواعي في التعبير الصباغي المحكوم بنسقية لاشكليةInformelتقوم على خلق تكاوين محتشدة بالخطوط الرّخوة..المنثالة والمدسوسة دسّاً في ثنايا اللوحة من أجل إعطائها نوعاً من التواجد الحر، لكنّها -مع ذلك- تظلُّ تحمل في عمقها بُعداً تشخيصيّاً يصعب ادراكه خلال مشاهدة واحدة..
في عمق هذه التجربة، تتدفق المفردات الصباغية التي يتخاطب بها الفنان بصيغ تعبيرية ملمسية متنوّعة مليئة بالتشكيلات اللونية المستمدة منالوجدان ومن عوالم خاصّة تملأ المساحات والكتل الملوَّنة وتشغلها بالحيوية الإبداعية المطلوبة، عبر غواية الشكل وجمالية المحكي البصري، غير اللفظي، المطبوع ببراعة الأداء..
هذا الاختيار التشكيلي، هو ما دفع الفنان الغراز إلى اعتماد التقنية المختلطة والمندمجة، الأمر الذي منحه إمكانية تحويل المواد والأصباغ والخامات واستغلال انعكاساتها وتحوُّلاتها البصرية على السند.هي هكذا لوحاته، فضاءات تشكيلية تقبل التراكم البصماتي وتستوعب الآثار اللونية الناتجة عن قوَّة البحث وبلاغة التجريب.لذلك، يُشكل هذا المعرض محطة إبداعية أخرى يُريد الفنان عبد العزيز الغراز من خلالها شحن طاقته الإبداعية المتجدّدة لتعزيز مساره الصباغيولكسب رهانه الجمالي..
* نص تقديمي لكاتالوغ معرض “استذكار” للفنان التشكيلي عبد العزيز الغراز بالرواق الفني لمؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين في الرباط والذي أقيم بين 04 و25 أكتوبر 2024.