هل تذكرون كيف كان جيلنا …لكن لماذا تركتم جيل “زذ” وحيدا ؟
أحمد فردوس.:
أنا من الجيل الذي تربّى مع أقرانه في أحضان مؤسسة الْفَقِيهْ داخل “لَمْسِيَّدْ/الجَّامَعْ”، حيث الجلوس فوق حصير نبات الدُّوم. وأنا المتشبع برائحة حروف وكلمات “قْلُمْ” القصب ومداد “دْوَايَةْ السْمَخْ” الموشومة بسائله الأسود على بياض “الُّلوحَةْ” التي كان محو سورها القرآنية القصيرة يتم بالصّلصال ويعتبر هذا الإنجاز عبورا بتأشيرة الحفظ بـ “الكُرَّاكْ”.
لكن للأسف الشديد فجيل “زِّدْ” تربى في العالم الأزرق وعلى قيم الفردانية وشيوع ثقافة التفاهة والسخافة.
أنا الصبيّ الذي كان أقراني يعشقون مدرستهم العمومية، ويحترمون ويقدرون رُسُلَهَا وأنبيائها من المعلمات والمعلمين الذين كنا نخشى قلقهم على تربيتنا وتعليمنا والحرص على أخلاقنا وسلوكنا، سواء داخل الفصل الدراسي وعالمه الواقعي، أو في ساحة المدرسة التي كانت مسرحا للعب والمرح المفيد، وحتى خارج أسوارها، بل كانوا ـ أي نساء ورجال التعليم ـ يتقفوا أثرنا وسط منازلنا بالسؤال عن الحال والأحوال، وبأحيائنا الفقيرة، من أجل متابعة ومراقبة تنفيذ وصاياهم وتوجيهاتهم.
لكن للأسف فجيل “زِّدْ” تربى وتعلم بدون حراسة وتوجيه وهو يبحر في الشبكة العنكبوتية وحيدا.
في الزمن الفاصل بين مؤسسة لَمْسِيَّدْ/الجَّامَعْ، والمدرسة العمومية، ظل طيف “الْفَقِيهْ” و “المعلّم” يلاحقنا في السّر والعلن، في الجد وفي اللعب، في كل خطواتنا وفي كل معاملاتنا وسلوكنا، خوفا من اقتراف ما لا يحمد عقباه، لأن آليات المحاسبة ترسخت في ضمائرنا تربويا ونحن صغارا، خوفا من المسائلة والمحاسبة، من طرف عيون جهاز مراقبة مؤسسات اجتماعية موازية مثل مؤسسة “مُولْ الْفَرَّانْ” و “مُولْ الْحَانُوتْ” وحارس حنفية “عْوِينَةْ الْبُومْبَةْ”، على اعتبار أن كل هذه الشخصيات كان يسمح لها بتنبيهنا من إيصال أخبارنا المشينة إلى من يهمه أمرنا.
لكن جيل “زِّدْ” تُرِكَ وحيدا يصارع أمواج التحولات المخيفة والمتسارعة، للأسف الشديد.
هل سننسى الدور التربوي الذي قدمته لنا مؤسسة دار الشباب في التنشئة الاجتماعية والثقافية والفنية والبيئية؟ بالطبع ستظل هذه الفترة التي انخرطنا فيها ونحن يافعين من أجل تلقي المعرفة العلمية والثقافية والإبداعية راسخة في الذهن، حيث كانت الأنشطة متنوعة بتنوع الأطر المتطوعة لخدمة أبناء الوطن.
لكن للأسف الشديد فالكل يعلم كيف تم توجيه وتغيير بوصلة جيل “زِّدْ” ثقافيا وفكريا وإبداعيا.
رغم تعدد الأوبئة والأمراض وسهولة انتشارها وقتئذ، فقد كانت ملائكة الرحمة، لا تبخل على الأسر في تقديم وتقريب الخدمات الصحية، ومواجهة كل ما من شأنه أن يفتك بالأطفال من أمراض “بُوحَمْرُونْ” و “بُوصَفِّيرْ” و “بُوشْوِيكَةْ” و “الْحُمَّى” و “الإِسْهَالْ”. وكان مخاض المرأة/الأم، وعملية الولادة تتم بسهولة على أيدي المولِّدات والقابلات العفيفات والطاهرات سواء في البيت أو في المستشفيات والمراكز الصحية، التي كانت تحلق الملائكة فوقها ليل نهار وتحرس الأرواح الطيبة.
لكن للأسف فإن جيل “زِّدْ” قد عاش نكبات وكوارث الحقل الصحي ومواجعه الأليمة.
كان الفلاح الصغير يشتغل ويكافح، وينتج ما يكفيه سنويا لمحيطه الاجتماعي، من الزراعات المعاشية، ويسهر على منتوجاته المتنوعة من الخضر والبواكر والفواكه، من أجل دعم الإكتفاء الذاتي وتوزيع فائضه على الضواحي لمساندة العمال والمياومين والمحتاجين في توفير لقمة العيش الهنيّة، حيث الكفاف والعفاف والزرق الوفير، وكان الكسّاب البسيط يتحمل بدوره مسؤولية توفير المواشي ورعايتها لتزويد السوق باللحوم اللذيذة والشهية، من لحم الغنم والبقر والإبل والدجاج.
لكن للأسف الشديد فجيل “زِّدْ” يعلم حقيقة أوضاعنا الفلاحية والزراعية وما إليها من تفاصيل حارقة.
سأكتفي بهذا، دون أن أتطرق لملفات الدعم للأسر الهشة والفقيرة وأطرح السؤال التالي:
كيف وصلنا إلى هذا المستوى المتدني من أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية؟ ولماذا تراجع منسوب التربية على قيم الوطنية وانعدام الضمير؟ بل كيف تسللت العيوب والأعطاب والأخطاء القاتلة لتربة هذا الوطن، فأصابت حقول التربية والتعليم والصحة والشغل؟
أما النتائج فالكل يعيش حصيلتها المقلقة للأسف الشديد.