جيل «الزاي» أم واقع ما وصلت إليه «ياء» الواقع؟
اطلعت على أغلب ما كتب عن جيل (Z) بالعربية، وظهر لي أن هناك تسرعا في الوصف وإسقاطا في التأويل.
إن المقصود بهذا الجيل مواليد ( 1995و2012). وإذا كانت هذه الصفة الجيلية تنسحب على الغرب، فهي لا تنسحب على أجيالنا لأن الصيرورة التاريخية مختلفة. صحيح ولد هذا الجيل بأنامل تلامس الشاشة، لكن التطور السريع جعل أنامل كل الأجيال المغربية تنقر الشاشة، وإن بشكل مختلف عما يقوم به هذا الجيل في منصات الألعاب الإلكترونية. لا بد لنا من تحقيب مختلف للأجيال في المغرب، لنضع هذه الاحتجاجات في سياقها التاريخي، لأن الوسيط الرقمي ليس سوى أداة حلت محل وسائط قديمة وظفها المغاربة للاحتجاج منذ الظهير البربري 1930. تغيرت الأداة، لكن ما تحمله من رؤى لم تغير كثيرا من واقع الاحتجاجات، وكان الأحد 5 أكتوبر/تشرين الأول 2025 موعدا لمسيرة بالآلاف، ومن كل الأجيال دعما للقضية الفلسطينية، إنه الاستثناء المغربي.
هناك عوامل أدت إلى احتجاجات 27 سبتمبر/أيلول، وألخصها في نقطتين: لحظي، ويتمثل في كارثة مستشفى أكَادير، التي عرت المغطى. وتاريخي ويبرز في التفاوت المذهل بين واقعين: ألف وياء. أما الألف فيبدو في سرعة الإنجازات المتعلقة بـ2030. ونرى الياء في غياب مشاريع موازية متصلة بالواقع الاجتماعي. وفي المقارنة بين ياء الواقع (كارثة المستشفى) وألف المنجزات العملاقة مسافة ضوئية. جاءت الاحتجاجات مطالبة بالإصلاح الاجتماعي، وبمقارنة غير دقيقة تستنكر سرعة الإنجازات المتعلقة بكرة القدم التي لا يعمر مدرجاتها إلا هؤلاء الشباب أنفسهم. سبق أن كتبت عن المغرب الثقافي 2030، وبينت أهمية السير بسرعة واحدة في المجالين معا، متسائلا عن جدوى بناء مسرح مذهل وجميل، إذا لم تواكبه ثقافة الاستمتاع بعروضه الفنية الراقية؟
إن هذا الجيل ليس مُنبتّا. وليس الوسيط الرقمي سوى أداة. أما جذور الاحتجاجات فهي بنيوية ومتواصلة، ويكفي ربط الأجيال المتعاقبة منذ الاستقلال بالاحتجاجات إلى اليوم، لنكشف زيف ما يقال عن «الزاي». يمكننا البدء بالجيل الأول الذي ولد مع الاستقلال، والذي امتد إلى 1975. عايش هذا الجيل انتفاضة مارس/آذار 1965، وكان سببها التعليم. وعايش الجيل الثاني (السبعينيات والثمانينيات) إضرابات 1981 و1984، كما عايش المسيرات ضد الحرب على العراق، ودعما لفلسطين. أما الجيل الثالث (الألفية الجديدة) فعاش مع الربيع العربي (20 فبراير/شباط)، وعاين الحرب الصهيونية على غزة. كما عايش كل الاحتجاجات المختلفة، التي لم تكن تخلو منها أي لحظة في تاريخنا «الرقمي».
ما يسمونه جيل «زد» ليس جيلا واحدا. فالنوع الأول ضحى آباؤه بالملايين من أجل تعليمه في المدارس الخاصة، لكي يكتسب جنسية أخرى ويقيم في بلد آخر. أما الثاني فكان ضحية التعليم العمومي، الذي أفرغ من محتواه متروكا للتهميش واللامبالاة. يلتقي النوعان في الولادة مع الثورة الرقمية. لكنهما معا، وإن باختلاف، لا يفكران إلا في هجرة بأوراق ثبوتية، وبراتب شهري ممتاز، أو بهجرة سرية في قوارب الموت. هذه هي الصورة الحقيقية للجيل الثالث. إنه يخشى المستقبل الذي يراه مسدودا. وهذه الصورة لا تمس هذا الجيل، إنها معاناة الأجيال الثلاثة، التي ولدت بعد الاستقلال. لذلك لا غرو أن نجد كل المغاربة، من دون استثناء ساندوا الاحتجاجات من جهة، ورأوها تعبر عن واقعهم، وهم الذين شاركوا في الاحتجاجات السابقة وقدموا تضحيات جسيمة، وها هم يهتمون الآن بمستقبل الجيل الثالث، والرابع أيضا، ومن جهة ثانية يستنكرون التخريب الذي قام به نوع من الجيل نفسه.
إن جيل الاستقلال لم يعش زمنا ورديا كما يصوره البعض الآن، من باب الحنين إلى الماضي. لكن هذا الجيل كان وليد المدرسة العمومية، حين كانت الروح الوطنية هي السائدة. أجيال اليوم تعاني من سياسة تعليمية لم يفكر فيها من منظور وطني منذ مارس 1965 إلى الآن. إن ترك التعليم والصحة للخواص جعلهما بقرة حلوبا لاستنزاف الأسرة المغربية، ولكن من دون أفق ثقافي أو استشفائي. وزمن التفاهة الرقمية ضاعف من الأمية والجهل، فكان هناك تراجع مهول للتعليم وسريان الفساد، واستعمال النقاط، والتسجيل في الشهادات، وتوظيف الأطر. وقس على ذلك في كل القطاعات، حيث قلت الروح الوطنية، وغابت المسؤولية بغياب المحاسبة والمراقبة. وصارت ثقافة الانتهازية والوصولية والقرابات هي المحددة لهوية «المواطن». إن الاحتقان الشعبي متواصل منذ زمان طويل. فالحكومات المتعاقبة منذ التوافق، وما بعد الدستور الجديد لم تلعب أي دور في إعادة الثقة في المجتمع السياسي. وأمام الفراغ التي خلفه التهافت على السلطة، والاستفادة منها جعلت الشعب لا يطالب إلا بالتدخل الملكي.
سمعت الكثير وقرأت ما يقال عن ضرورة الحوار، واستقالة الحكومة والانتخابات المبكرة. وكأن المشكلة في الحكومة، أو أن الانتخابات ستأتينا بوجوه جديدة تنسخ ما ترسخ منذ أزمان، لقد فقد الشعب ثقته في الأحزاب والانتخابات، التي يرى أنها لا تقدم إلا من يفكر في السلطة للاستفادة على حساب الوطن.
عن أي حوار تتحدثون؟ فكل شيء بيِّن، وواضح، وله تاريخ. على الحكومة أن تتجاوز تصوراتها الجاهزة في مواجهة كل الاختلالات، وتقدم للشعب تحملها مسؤوليتها، في ما جرى من خلال أفعال إصلاحية حقيقية وملموسة وجديرة بإعادة الثقة. ويكون التواصل متواصلا وشفافا. كما أن على الأحزاب والنقابات تحمل مسؤولياتها في تأطير الشباب. إن حزبا لكل مليون نسمة دال على أن تسونامي لأحزاب لا قيمة له. ليحل الكثير من الأحزاب والنقابات، وليندمج بعضها مع غيره، وفق رؤية محددة، وبرامج ملموسة، في كل الانتخابات الأخيرة لم نجد فرقا بينها، فهي لا تملك سوى لغة واحدة، وليلعب الإعلام الوطني الرسمي والشعبي والمثقفون دورهم في مواجهة ثقافة التفاهة والإشاعات المغرضة، ولتحترم حرية الصحافة وفق ضوابط تراعي المسؤولية ونشر الحقيقة.
إن التحديات الداخلية كثيرة، والتربصات الخارجية متعددة، وينبغي أن يكسب المغرب رهاناتها، ويبين للعالم أنه في مستوى ما يتطلع إليه من منجزات استثنائية. ومن دون تحمل الكل مسؤوليته بوعي وحس وطني لا يمكن إلا أن نجد من بيننا من يشكك في جدوى ما يتحقق. لقد فتِحت أوراش مهمة ظلت معطلة منذ أزمان، ومن دون ربطها بتحقيق إصلاحات عميقة اجتماعيا وثقافيا تواكبها، سنكون أضعنا فرصة لتحقيق ما نحلم به لوطن متماسك، ويرنو إلى المستقبل برؤية واقعية، وإلا وجدنا أنفسنا نتحدث في 2040 عن «جيل» جديد الذكاء الاصطناعي؟
سعيد يقطين
كاتب مغربي