جريدة إلكترونية مغربية

ظاهرة انتحار الأطفال: ناقوس خطر يهز براءة الطفولة ومسؤولية مجتمعية مشتركة

تعتبر ظاهرة انتحار الأطفال من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع الحديث، لأنها توضح العبء النفسي والاجتماعي الهائل الذي يواجهه الأطفال والمراهقون في بداية حياتهم. ورغم أن الانتحار بين الأطفال قد يبدو مفاجئًا وغير متوقع في ظل البراءة والمرح المرتبط بهذه الفئة العمرية، إلا أن تزايد الحالات في السنوات الأخيرة أصبح ناقوس خطر يستوجب التوقف والتأمل والتدخل. إن أسباب هذه الظاهرة معقدة ومتعددة، بدءاً من التنمر والتفكك الأسري وصولاً إلى التأثيرات السلبية لوسائل الإعلام ونقص الدعم النفسي. لذلك، يُعد التصدي لهذه الظاهرة مسؤولية مشتركة بين الأسرة، المدرسة، المجتمع المدني والدولة لضمان بيئة آمنة ومُحِبة تُجنب أطفالنا الانزلاق إلى هاوية اليأس.

ظاهرة انتحار الأطفال في المغرب تمثل قضية اجتماعية وإنسانية مقلقة ومؤلمة تستدعي التوقف عندها وفهم أبعادها للبحث عن حلول فعالة.
على الرغم من أن الحديث عن هذه الظاهرة قد لا يكون شائعًا في المجتمعات التقليدية، إلا أن الأرقام والدراسات التي ظهرت في السنوات الأخيرة تشير إلى حالات انتحار الأطفال والمراهقين في تزايد مستمر.
العوامل التي قد تؤدي إلى التفكير في الانتحار لدى الأطفال ترتبط غالبًا بمزيج من العوامل.

أولا: الأسباب والمضاعفات
العوامل النفسية
يمثل الاكتئاب حوالي 6% من الحالات ويعد من أبرز العوامل التي تزيد من خطر الانتحار، خاصة عندما يصاحبه فقدان الأمل والشعور بالعجز. فالقلق المفرط والتوتر يمكن أن يدفع الأطفال للبحث عن طرق للهروب من معاناتهم النفسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض اضطرابات الشخصية والشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية قد يزيدان من الضغوط النفسية، مما يفاقم السلوكيات الانتحارية.

العوامل الاجتماعية:
يلعب المجتمع دورًا محوريًا في تكوين شخصية الطفل وتعزيز صحته النفسية. ومع ذلك، قد تؤدي العوامل المجتمعية السلبية أو الضاغطة إلى تفاقم المخاطر النفسية، بما في ذلك التفكير في الانتحار. يتأثر الأطفال ببيئتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حيث يمكن أن تسهم مشاكل الفقر وانعدام العدالة الاقتصادية، والتعرض لمحتوى إعلامي غير ملائم، ووصمة العار المرتبطة بطلب الدعم النفسي، وضعف الوعي بالصحة النفسية، بالإضافة إلى التحديات في العلاقات مع الأقران أو أفراد الأسرة، أو الضغوط الناتجة عن التوقعات العالية للأسرة أو المجتمع في الجوانب السلوكية أو الدراسية، في التأثير على استقرارهم النفسي.

العوامل الأسرية:
الأسرة تمثل البيئة الأولى التي يتأثر بها الطفل، وهي تلعب دورًا أساسيًا في تكوين شخصيته وصحته النفسية. عندما تكون العوامل الأسرية غير مستقرة أو سلبية، فإنها قد تؤثر بشكل كبير على زيادة خطر الانتحار لدى الأطفال.
من أبرز الآثار نجد غياب الدعم أو عدم التواصل المفتوح داخل الأسرة ،النزاعات الأسرية المتكررة، سوء المعاملة أو الإهمال من قبل الأهل ،فقدان أحد الوالدين أو انفصال الأسرة.

عوامل مدرسية:
المدرسة هي بيئة أساسية لتكوين شخصية التلميذ وتطوير مهاراته، لكن في بعض الأحيان تصبح مصدرًا للضغوط النفسية الشديدة التي قد تؤثر على الصحة النفسية للتلاميذ بشكل سلبي، وتدفع البعض منهم للتفكير في الانتحار كوسيلة للهروب من معاناتهم. تتلخص هده الأسباب في القلق من الامتحانات والضغوطات الأكاديمية والصعوبات التعليمية التي تُشعر الطفل بالفشل وشعور الطالب بعدم الانتماء للبيئة المدرسية.

الصدمات النفسية:
للصدمات النفسية تأثير عميق على ظاهرة انتحار الأطفال، حيث تُعدّ واحدة من العوامل الرئيسية التي تزيد من احتمالية وصول الطفل إلى مرحلة التفكير في إنهاء حياته. وتشمل الصدمات النفسية التي قد يتعرض لها الأطفال: الإساءة الجسدية أو النفسية، الإهمال العاطفي، التنمر المستمر، الاعتداء الجنسي، فقدان أحد الوالدين أو الأحبة، التعرض لتجارب مؤلمة مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية.

الأسباب البيولوجية والجينية:
الانتحار عند الأطفال قضية معقدة، تتداخل فيها عوامل بيولوجية ،جينية ،نفسية ،اجتماعية وبيئية. من الناحية البيولوجية والجينية، هناك بعض الأسباب التي قد تزيد من خطر التفكير أو السلوك الانتحاري عند الأطفال، ومن أبرزها:

1.العوامل الجينية:
الأطفال الذين ينحدرون من عائلات تشتهر بتاريخ من الاضطرابات النفسية أو حالات انتحار بين الأقارب من الدرجة الأولى (مثل الوالدين أو الأشقاء) قد يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو القلق أو محاولات الانتحار، وذلك بسبب العوامل الوراثية.
تشير بعض الدراسات إلى أن الطفرات أو التغيرات في جينات معينة، مثل تلك المرتبطة بنقل السيروتونين والدوبامين، قد تساهم في زيادة القابلية للإصابة بالاكتئاب أو السلوك الانتحاري.
2. التغيرات البيوكيميائية في الدماغ:
اضطرابات في نظام السيروتونين: يعتبر السيروتونين ناقلًا عصبيًا مسؤولًا عن تنظيم المزاج، وأي انخفاض في مستوياته في الدماغ قد يؤدي إلى زيادة الأفكار والسلوكيات الانتحارية.
اختلال التوازن الكيميائي: قد يؤثر وجود خلل في المواد الكيميائية الأخرى في الدماغ، مثل الدوبامين « dopamine » والنورإبينفرين أو نُورأدرينالين «Noradrénaline » على قدرة الطفل على التعامل مع الضغوط النفسية.
3. الاستجابة للضغط العصبي:
فرط نشاط محور HPA (الوطائي-النخامي-الكظري): يؤدي الإجهاد المزمن إلى تنشيط مفرط لهذا المحور، مما يزيد من مستويات هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، والتي قد تؤثر سلبًا على الدماغ وتزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب والسلوك الانتحاري.
تأثير الصدمات المبكرة: الأطفال الذين تعرضوا لصدمات نفسية أو جسدية في مراحل مبكرة من حياتهم قد يعانون من تغييرات بيولوجية تؤثر على طريقة استجابتهم للضغوط.
4. الاضطرابات النفسية المرتبطة:
الأطفال الذين يعانون من اضطرابات مثل الاكتئاب، اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، أو اضطراب طيف التوحد قد يكون لديهم عوامل بيولوجية تجعلهم أكثر عرضة للسلوك الانتحاري.
اما الاضطرابات المزاجية الثنائية القطب، يمكن أن تظهر في مراحل مبكرة وتؤدي إلى نوبات اكتئاب حادة.
5. التأثير البيئي على الجينات (Epigenetics):
البيئة قد تؤثر على التعبير الجيني للأطفال. على سبيل المثال، التعرض للإهمال، العنف، أو الفقر يمكن أن يُحدث تغيرات في طريقة عمل الجينات المرتبطة بالمرونة النفسية وتنظيم المشاعر.
6. الأمراض الجسدية المزمنة:
تُعد الأمراض الجسدية المزمنة من العوامل المهمة التي قد تساهم في ظهور السلوك الانتحاري لدى الأطفال والبالغين. يكون تأثير هذه الأمراض على السلوك الانتحاري معقدًا، حيث يتداخل فيه العديد من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية.
الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة مثل السكري أو الصرع قد يشهدون تغييرات في الكيمياء الحيوية للدماغ تؤثر على مزاجهم.

 

ثانيا: الوقاية وآليات التدخل

يُعتبر التدخل المبكر من أبرز الأساليب الفعّالة للوقاية من الانتحار لدى الأطفال. نظرًا لتعدد وتعقيد الأسباب التي تؤدي إلى السلوك الانتحاري، فإن معالجة المشكلة في مراحلها الأولى يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في حياة الطفل. تكمن أهمية التدخل المبكر في النقاط التالية:
– التقييم النفسي والطبي الشامل.
– العلاج الدوائي عند الضرورة (مثل مضادات الاكتئاب).
– العلاج النفسي (مثل العلاج السلوكي المعرفي).
– تقديم الدعم الأسري والبيئي.

1. الكشف المبكر

الانتحار غالبًا ما يكون ناتجًا عن تراكم مشكلات نفسية غير معالجة، مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD). التقييم المبكر يساهم في التعرف على الأعراض المبكرة مثل الحزن المستمر، الانعزال الاجتماعي، أو التعبير عن أفكار انتحارية.
الانتحار غالبًا ما يكون نتيجة تراكم مشكلات نفسية غير معالجة، مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD). التقييم المبكر يساعد على التعرف على الأعراض المبكرة مثل الحزن المستمر، الانسحاب الاجتماعي، أو التعبير عن أفكار انتحارية.

2. تقليل عوامل الخطر:
التدخل المبكر يمكن أن يساعد في تقليل تأثير عوامل الخطر مثل التنمر، الإساءة (الجسدية أو النفسية)، والتعرض للصدمات العائلية مثل طلاق الوالدين أو فقدان أحد أفراد الأسرة، بالإضافة إلى المشاكل المدرسية أو الأكاديمية. معالجة هذه العوامل في وقت مبكر يقلل من الضغط النفسي على الطفل.

3. تعزيز عوامل الحماية:
التدخل المبكر يتيح الفرصة لتعزيز عوامل الحماية مثل: تقوية الروابط العائلية وتوفير بيئة آمنة ومستقرة ،تعليم الطفل، مهارات التكيف وحل المشكلات ،تعزيز الثقة بالنفس والقدرة على طلب المساعدة عند الحاجة.

4. الوقاية من تفاقم الأعراض:

إذا تُركت المشكلات النفسية دون علاج، فقد تتفاقم وتؤدي إلى تطور أفكار أو محاولات انتحارية. التدخل السريع عبر العلاج النفسي أو الدعم الأسري يمكن أن يساهم في منع تفاقم المشكلة ووصولها إلى مراحل خطيرة.

5. التثقيف والتوعية:
التوعية المبكرة للأطفال وأسرهم حول الصحة النفسية والانتحار تساهم في:
– التخلص من الوصمة المرتبطة بطلب الدعم والمساعدة.
– تشجيع الأطفال على التعبير عن مشاعرهم بحرية ودون خوف.
– زيادة وعي الآباء والمعلمين بالعلامات التحذيرية التي يجب مراقبتها.

6. أهمية الدور المدرسي:
المدارس تعد بيئة رئيسية لرصد العلامات المبكرة للمشاكل النفسية. يمكن أن تكون تقديم برامج دعم نفسي ومناهج تعليمية تركز على تعزيز الصحة النفسية للأطفال خطوة حاسمة في الوقاية.

7. الاستجابة السريعة للأفكار الانتحارية:

عندما تظهر على الطفل علامات تشير إلى التفكير في الانتحار (مثل الحديث عن الموت أو إيذاء النفس)، فإن التدخل السريع يمكن أن يكون حاسمًا في إنقاذ حياته. يشمل التدخل توفير العلاج النفسي السلوكي أو العلاجات الدوائية إذا لزم الأمر، بالإضافة إلى تقوية شبكة الدعم الاجتماعي المحيطة بالطفل.

8. تحسين جودة الحياة:
لأطفال الذين يحصلون على دعم مبكر يمكنهم اكتساب استراتيجيات فعّالة للتعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية. هذا يساهم في بناء قاعدة قوية لصحتهم النفسية في المستقبل ويقلل من احتمالية تعرضهم لخطر الانتحار في مراحل لاحقة من حياتهم.
9. التقليل من الأثر السلبي على الأسرة والمجتمع:
الانتحار بين الأطفال لا يقتصر تأثيره على الطفل فقط، بل يترك أثرًا عميقًا على الأسرة والمجتمع ككل. الوقاية المبكرة تساهم بشكل كبير في التخفيف من هذا العبء العاطفي والاجتماعي. من الضروري تدريب الآباء والمعلمين ومقدمي الرعاية على كيفية التعرف على العلامات التحذيرية ومعالجتها بشكل فعال. كما يجب توفير مراكز دعم واستشارات نفسية تكون في متناول الجميع، بالإضافة إلى إدخال برامج تُركز على تعزيز الصحة النفسية وتطوير المهارات الاجتماعية للأطفال.

ختاما، تبقى صحة الأطفال النفسية مسؤولية مشتركة تتطلب تكاتف الأسرة، المجتمع المدني، والمؤسسات المختصة. إن حماية الأطفال من آثار الصدمات النفسية والحد من ظاهرة الانتحار تبدأ بتوفير بيئة داعمة وآمنة تعزز قيم الحب والقبول غير المشروط. كما أن الوعي بأهمية الصحة النفسية والاهتمام بتقديم الدعم المناسب في الوقت المناسب يسهمان بشكل كبير في بناء أجيال قادرة على تجاوز التحديات والعيش بكرامة وأمل. فالأطفال هم أمل المستقبل، وحمايتهم من الانكسار النفسي هي استثمار في مستقبل أكثر إشراقًا وإنسانية.

الدكتور الشطيبي حسن
أخصائي في علم الأعصاب المعرفي السلوكي والصحة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.